عندما ندرس حركة المستقبل في نشاطات الأمة بشكلٍ عام، وفي تطلعات الإسلام، فإننا نستوحي من القرآن الكريم، في مفاهيمه التي تعبر عنها آياته، أنه يخطط لصنع العقل الإنساني الذي ينفتح في أول انطلاقاته على آفاق معرفة الله تعالى؛ خالق السموات والأرض والإنسان، ومبدع النظام الكوني بكل أسراره الإبداعية التي تمثّل عمق العناصر التي يرتكز عليها الكون كله، على أساس أن الله تعالى جعل لكل شيء قدراً {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر:49]، فليس هناك في الكون أيّة صدفة، حتى ما يعتبره الناس في حياتهم الخاصة وفي أوضاعهم العامة صدفةً، فإننا عندما نتعمّق فيه، نجد أنه خاضع نظام معيّن يتمثّل بالظروف الخفية أو البارزة التي تحيط بالإنسان وبالواقع.
والقرآن الكريم إنّما يستهدف صنع العقل الإنساني، حتى يرتفع هذا العقل إلى مستوى الانفتاح على الله فيما يمكن أن يعرفه منه، لأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يقتحم ذات الله، فهي ليست تحت الحسّ أو تحت التجربة حتى يعمل الإنسان على أساس اكتشافها، ولكننا نعرف الله من خلال ما تحدّث به عن نفسه، ومن خلال خلقه وآياته في الكون {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصّلت:53].
لذلك يخطط القرآن الكريم في المنهج الإسلامي لصنع العقل وتنميته وتطويره ومنحه الحرية، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنح الحرية المطلقة لأعضاء الإنسان، بل جعل لكل عضو حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، سواء في العينين فيما ينظر إليه، أو في الأذنين فيما يسمع بهما، أو في يديه ورجليه وكل أجهزة جسمه، حيث جعل الله لكل واحدٍ من هذه الأعضاء حدوداً، ولم يطلق الحرية المطلقة إلا للعقل، فالإسلام أعطى للعقل حريته في أن يفكر في كل شيء، ولم يجعل له آفاقاً ضيّقة يحشر في داخلها، بل إننا عندما نقرأ القرآن الكريم وندرس الآيات التي تذكر العقل، نجد أنه يقحم العقل في كل أوضاع الكون الإنساني؛ في تطلعات الإنسان في نفسه، وفي الكون من حوله.
فالله تعالى قال للعقل كُن حراً، فكّر في ما تريد، ليست هناك حدود لتفكيرك، فكر في الله، فكر في كل ما يقوله الآخرون وما لا يقولونه، ولكن تحمّل مسؤولية فكرك، بحيث تجعله ينطلق في الخطوط التي يمكن لها أن تنتج النتائج الإيجابية وأن تصل إلى الحقّ، لأنّ كل إنسان سيقف غداً بين يدي الله تعالى ليقدّم حساب عقله قبل أن يقدم حساب جسده، لأنّ أيدينا وأرجلنا وجلودنا وألسنتنا ستشهد علينا يوم القيامة، أما العقل فعلينا أن نقدّم شهادتنا عنه أمام الله، كيف فكر وعلى أي أساس، وما هو منهجه، وكيف وصل إلى هذه النتيجة الإيجابية أو تلك النتيجة السلبية؟
والعقل ينتج العلم، سواء كان العقل التأملي أو التجريبي، لأن التجربة وإن كانت تتحرك بالحسّ، إلا أنّ الحسّ لا يمكن أن يعطي الفكرة إلا من خلال العقل الذي يمد هذه التجربة المحدودة إلى كل ما يماثلها، كما ورد في الفكرة الفلسفية: إن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
على ضوء هذا، لا بدّ من أن يكون لنا عقل يتحرك في إنتاج العلم والفكر، ويحرك تأملاته في الآفاق، ويطلق تجربته في الواقع الذي يعيشه الإنسان، ومن هنا يأتي دور القراءة؛ القراءة في الكون، لأن الله أراد لنا أن نقرأ في كتاب الكون الذي يتمثّل بالظواهر الكونية، لنتعرف من خلاله النظام الكوني، حتى نتمكّن من فهمه وإيضاح معالمه، ولنفهم ما يختزنه من أسرار، من أجل أن نمنح الإنسان من خلال هذا التدقيق في أسرار الكون شيئاً جديداً يتصل بكل جوانب حياتنا، سواء في ما يتعلق بالمرض والعافية، أو في ما يتعلق بحركة الإنسان في تطوير المادة أو في ما يتعلّق بكلّ أوضاع الحياة...
ومن هنا يأتي دور القراءة، باعتبار أن القراءة تعطينا وعي ما أنتجه الآخرون، من خلال ما أطلقوه من تأملات وما قاموا به من تجارب، ومن الطبيعي أن تكون هذه القراءة قراءةً واعيةً مفكرةً علميةً لا تحدّق في الكتاب تحديقة ساذجة، بل تحاول أن تدرس ما في الكتاب، لتنقد ما ينبغي نقده، ولتقبل ما يمكن قبوله، لأن الآخرين قد يخطئون في تأملاتهم عندما يتأملون، وقد ينحرفون في تجاربهم أو في استنتاج التجربة عندما يجربون.
فنحن لا بد لنا من أن ننطلق بالقراءة والمطالعة لنستجمع كل ما انطلق به المبدعون والمفكرون، فنجمع كل ثقافتهم لنصنع ثقافةً جديدةً، وليس علينا أن نتوقف أمام الأجيال التي سبقتنا من المفكرين، بل علينا أن ننشىء أجيالاً جديدة تفكر بطريقة علمية، وتعمل على أساس أن تضيف إلى النتاج الثقافي الماضي نتاجاً ثقافياً معاصراً من أجل الانفتاح به على المستقبل، وخصوصاً في المسألة الإسلامية، وقد سمعنا بعض المفكرين المسلمين يقولون إنّ المسلمين قد توقفوا عن إنتاج الفكر بعد ابن رشد وابن خلدون.
ولكننا نعتقد أن هناك خطاً في هذا الموقف، لأن الفكر الإسلامي لا يتوقف، ربما نجد في هذا الفكر الإسلامي أن هناك عمقاً في تجربة معينة أو سطحاً في تجربة أخرى، ولكننا نملك الكثير من القمم الفكرية الفلسفية، كصدر الدين الشيرازي وغيره، حتى في بعض التجارب الموجودة الآن في مصر وفي إيران وما إلى ذلك، ما يدل على أن هناك فكراً إسلامياً تختلف درجاته أو آفاقه أو نتائجه في المقام.
إن علينا أن لا نقرأ القراءة الساذجة التي تستظهر الأمور استظهاراً، بل علينا أن نقرأ القراءة العلمية الواعية المبدعة، لنقدّم نتاجاً ثقافياً علمياً جديداً، وليكن اهتمامنا بالغذاء الثقافي في قراءاتنا تماماً كما هو الغذاء المادي، فكما أن علينا أن لا ندخل في أجسامنا ما يربك صحتها أيضاً، علينا أن لا ندخل في عقولنا ما يربك أيضاً الصحة العقلية. لذلك علينا أن نجعل الإنسان العربي، والإنسان المسلم، والإنسان بشكلٍ عام، يعيش مسؤولية الثقافة، لينمو عقله نمواً ثقافياً، حتى إننا نقول إنه لا بد من أن نثقِّف أحاسيسنا وعواطفنا، وأن نثقّف انفعالاتنا، وأن نثقف كل حركتنا في الحياة.
وعلينا أن نكف عن الانحناء بعقولنا لأي جهة من الجهات مهما كبرت، سواء كانت جهات قيادية أو مرجعية أو ما إلى ذلك، بل علينا أن نكتشف نقاط الضعف في القيادات كما نكتشف نقاط القوة فيها، لأنه ليس هناك في غير عالم المعصومين قيادة معصومة، ولذلك فإن علينا أن نعوِّد القيادات على أن تتقبل النقد، وأن نعوّد أنفسنا أنّه لا مقدّس في النقد، إذ يمكن أن تقدَّس أعلى المرجعيات الدينية، ويمكن أن تُنقَد أعلى المرجعيات الدينية والمرجعيات الثقافية والمرجعيات السياسية.
لقد خلق الله الإنسان حراً في عقله وحراً في علمه وحراً في حركته، وعلينا أن لا نستعبد أنفسنا لأحد، فالله وحده هو المعبود، وهو الذي منحنا الحرية، وسنقدّم حساب هذه الحرية بين يديه، ليجزينا الأجر على ما أصبنا، ويحاسبنا على ما أخطأنا فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق