الجواب: تقويمي للمشهد الثقافي العربي الراهن ليس متشائماً مهما كان هذا المشهد بطيئاً. إن المشهد الثقافي العربي بدأ يتحول من تمجيد أو إدانة السياسيين إلى الرجوع إلى النفس. وهناك قصة تدل على الثقافة العربية خلال بواكير محنة فلسطين، حين أعلنوا الحرب على إسرائيل. فقد طلب صحفي من المفتي أمين الحسيني أن يقوّم الحالة، فكان جوابه: إذا تكلم السيف فاسكت يا قلم. لقد تكلم وكان له ضجيج وصخب وانقلابات وحروب وتبادل للتهم، وكان صوت المثقف وعمله خافتاً، إن لم نقل صامتاً ساكتاً. ولكن الآن لم يعد الناس، بعد نكبة الخليج، يحّملون السياسيين التبعة. فقد بدأ المثقف يفكر بشكل مختلف وبدأ يفكر في الانقلاب الاجتماعي. وحصل هذا من قبل حين أُعلن في هزيمة حزيران 1967 ولو بصوت خافت، أن الهزيمة لم تكن عسكرية فقط، بل كانت هزيمتنا ثقافية. هذا هو تعليم التاريخ. فالثقافة لم يعد يحملها أفراد إصلاحيون فقط مثل الأفغاني ومحمد عبدو وتلاميذهم، وإنما صارت أعم ولم تعد هناك أسماء بارزة (كارزمية) مهدية أوحدية، بل برز اتجاه عام. فمثلاً نشوء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. وهي ليست مؤسسة سياسية ولا تابعة لدولة وإنما مؤسسة ثقافية دراسية تستقطب المفكرين والباحثين، ولها نشاط جيد في إنتاج الفكر والتحليل كما أن لها ندوات وملتقيات بحثية فكرية رصينة.
وكذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن. إنه توجه صحيح وجيد وبدأ يخرج وينتج شباباً باحثين مفكرين وتفرع عنه كلية الدراسات الإسلامية الاجتماعية للنساء والرجال. وهناك تناغم مع العالم الإسلامي بشكل راسخ مهما كان متمهلاً وبطيئاً. هذه المؤسسات مع كل قصورها إلا أنها تزداد رسوخاً وقوة وإقبالاً وتقديراً من الآخرين. وكذلك الجامعات العربية التي تخرج الجيل الثاني والثالث. وهذا إضافة إلى الوسائل السمعية والبصرية والقنوات الفضائية التي تتكاثر في تنافسٍ وتأتي بالمفكرين والباحثين لمناقشة الموضوعات. والناس يراقبون ويقبلون عليها إقبالاً جيداً. وهذا شيء جديد جداً. وقد بدأ التنافس في عرض آراء الباحثين الاختصاصيين في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والموضوعات متسارعة، وهي تبشر بخير كثير، مع كل جوانب القصور، ونتطلع إلى التحسين في الفهم والأداء والإخراج. وإن إنساناً يرصد هذا بحضور وإحصاء يمكن أن يضع أفهامنا وأعيننا على التطورات التي تحدث. وهذا يدعو للتفاؤل.
إن فكرة الديمقراطية وإن كان الحديث عنها قليلاً إلا أنها بدأت تتعمق في مفاهيم الناس. إن كلمات ومصطلحات "مسألة الآخر" و"تعدد الرؤى" و"حرية الكلمة" بدأت تولد وتتكرر وتتحدد لها مفاهيم. فهي تتحرك وتنمو وأصبحت الرقابة ممجوجة، ولم يعد ممكناً الحيلولة دون انتشار أفكار اكتسبت قوة الاختراق، بحيث لم تعد أمامها حدود. إن وسائل تبادل المعلومات تنمو يوما بعد يوم. وهذا لمشهد ممتع لمن يتمكن من مراقبته. وكذلك معارض الكتاب في كل العواصم العربية، وتبادل المطبوعات والمحاضرات والباحثين، وتطور الفن العربي والمسلسلات التي يتنافس أصحابها في الإبداع أصالة وحداثة.
نعم يمكن أن نرى جوانب نقص كثيرة ولكن الأمور تتقدم برسوخ. والأيام قريبة وأقرب مما نظن للعودة إلى التواصل والالتئام. حتى يمكن أن نقول لئن رجعنا إلى التواصل فلن نتقاطع بعد. فكأن هذه الأشياء تحدث حتى دون كلام، لأن الظروف صارت تفرض الانتقال إلى علاقات جديدة. فحتى المكرر صار يحمل معنى جديداً، فالتطور ماحق ساحق سريع لا يسمح بالتوقف. مع كل هذا، فالمتشائم لا يمكن أن يرى إلا التقليدي المكرر الممل الذي لا يجلب الانتباه حتى في المجال السياسي. هناك كلمات وإن كانت خافتة وغير مكررة كثيراً إلا أنها ولدت وصرنا نسمعها. إن تصريح وزير جزائري عقب الإنتخابات: "خسرنا الانتخابات ولكن ربحنا الديمقراطية" لكلام جديد وغير مكرر. وهو إبداع وتطور ومبشر بخير كثير. وكذلك يصرح سلمان بن عبد العزيز، وزير الدفاع السعودي في واشنطن: "أن الشعوب لها رغبات لا يمكن أن تتجاهلها طويلاً". فهذا أيضاً كلام غير مكرر، وليس بلا معنى. إن التطور ملموس ضمن هذه التصريحات. ونسمع مسؤولاً أردنياً يقول ما فحواه: لماذا إذا استجبنا لرغبات شعوبنا يعتبر ذلك تطرفاً وتراجعاً؟ ولماذا هم يعتبرون استجابتهم لرغبات شعوبهم قيمة إنسانية وتقدماً وتطوراً نحو الأمثل؟ فكل هذه وأمثالها ليست قليلة، وإن كانت قليلة البروز خلال الضجيج الصاخب وتبادل الإدانات. إن العالم العربي والعالم كله تصدع بعد حربي الخليج. فالكل راجع حساباته سواء المستضعفين أو المستكبرين. إننا سنضطر جميعاً أن نتكيف مع التاريخ. وهذه الظاهرة ظاهرة عالمية في عموم أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا. إن العالم يولد ولادة جديدة مع كل الآلام والآمال التي تصاحب كل الولادات.
كانت هذه المجلة تصدر في ايران قبيل سقوط النظام السابق في العراق .. وكان هذا المحور مع الكاتب ابان صدورها هناك .
ردحذفاما اليوم فهي تصدر وتباع في بغداد العراق
تحديداً في شارع المتنبي